كتب: علي محمد فخرو
لو تمعنا في دلالة تصرفات مؤسسات الحكم الأمريكية المتعاقبة، النفسية والسلوكية والعقلية، عبر العالم كله، لفوجئنا بتماثلها وتطابقها مع كثير من أعراض العلل العقلية والنفسية، التي يصاب بها بعض الأفراد. أعراض تصرفات، أو أمراض نفسية أو عقلية، مثل العصاب والوساوس والهستيريا والتصرفات السيكوباثية والهوس والفصام والبارانويا، يلحظها المراقب في ذاك التصرف التاريخي، أو هذا القرار الحالي. وبالطبع نحن نتكلم هنا عن عقلية نظام الحكم وتصرفات مؤسساته تجاه الآخرين، وليس عن الشعب الأمريكي المشهور بطيبته وبساطة معشره والكثير من طباعه الحميدة.
دعنا نصف أمثلة قليلة من تصرفات أنظمة الحكم الأمريكية في الماضي والحاضر، للبرهان على ارتباط التشخيص هذا بوقائع حدثت وعانى الملايين من آثارها الموجعة والمدمرة. فمثلاً، من أجل إرغام اليابان على الاستسلام في نهاية الحرب العالمية الثانية، كما استسلمت ألمانيا النازية، استعملت أمريكا سلاحاً جديداً فتاكاً، فألقت قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما. في ذلك اليوم الأسود قتل مئة ألف شخص من السكان، وجرح وشوه مئات الألوف، وحل دمار عمراني هائل، ورأى العالم مجزرة بشعة خلال بضع ساعات. وبدلاً من أن تنتظر حكومة أمريكا لمدة معقولة كافية، لترى إن كانت حكومة اليابان ستستسلم وتتجنب أمريكا إحداث المزيد من قتل بشع غير مبرر، أتبعت القنبلة الأولى خلال ثلاثة أيام فقط بقنبلة ثانية ألقتها على سكان مدينة ناغازاكي المدنيين. مهما كانت المبررات العسكرية فقد أظهر ذاك التصرف أعراضاً سايكوباثية لنظام الحكم الأمريكي، إذ غاب الضمير الذي يتعلم من درس مرعب، ويشعر بالذنب تجاه ضحايا لا ذنب لهم، ويرفض أن يرد الصاع صاعين. غاب أي نوع من القلق الذي يتميز به الضمير المتزن.
ومثلاً ثانياً، ولأن السايكوباث لا يتعلم من أخطائه، بل لا يعترف بها أصلاً، فعل نظام الحكم الأمريكي خطأ مماثلاً في فيتنام، عندما استعمل قنابل النابالم ومادة الأورنج السامة ليسمم وليحرق الغابات والمزارع، ويقتل ويسمم الألوف من سكان غابات فيتنام. ومثلاً ثالثاً، كرر الأمر نفسه في العراق، عندما استعمل القنابل المخصبة بمادة اليورانيوم المشعة، ضد المدنيين العراقيين، فقتل من قتل ونشر في العديد من الأنحاء العراقية أنواع أمراض السرطانات في أجسام أطفال العراق الذين يعانون حتى يومنا هذا. ومثلاً رابعاً، ومن قبل قيام الدولة الأمريكية برر كهنة المذهب البروتستنتي عند الرجل الأبيض، إبادة السكان الأصليين الهنود الحمر، بأنها تصرف مبارك من الرب، لأن إبادتهم ستقلل عدد الكفار وتقوي شوكة المؤمنين. فكان أن قادت وساوس وهلوسات الفصام وكل أعراض البارانويا الخيالية الدينية آنذاك، إلى تحليل نشر شتى أنواع الأمراض الوبائية بين السكان الهنود الأصليين، وهم في أضعف حالاتهم الجسدية، عندما كانوا يساقون مشياً على الأقدام لمسافات طويلة.
سيتعب الباحث لو أراد تغطية مئات الصراعات والحروب والاغتيالات، بما رافقها من أكاذيب إعلامية وتبريرات غير أخلاقية، التي خاضتها أمريكا عبر تاريخها الطويل، تحت تأثير مجموعة من الأفكار والانطباعات والعواطف والسلوكيات والعلاقات مع الآخرين، الخاطئة والعدوانية، ورافقتها أحياناً حالات من التصرفات الهستيرية والهلوسات المتخيلة التي لا ارتباط لها بالواقع. في يومنا هذا أنظر كيف تتعامل أمريكا مع تعقيدات الوضع في أوكرانيا بهستيريا صاخبة، أو كيف تتعامل مع منافساتها الاقتصادية والتجارية مع الصين، المليئة بالتصرفات العصبية غير الناضجة، أو كيف تتصرف بعقلين ووجهين مع الممارسات الاستعمارية الصهيونية تجاه الشعب الفلسطيني، أو مع ظاهرة الإرهاب بكل أشكالها.
إننا نضع نماذج من تصرفات أنظمة الحكم الأمريكية المتعاقبة، الدالة على عدم التوازن وكثرة الاضطرابات الذهنية والنفسية، نضعها أمام مسؤولي أنظمة الحكم العربية، الذين يضعون ثقتهم التامة الساذجة في أمريكا كجهة محايدة عاقلة قادرة على حل كل مشكلة يواجهونها. ذلك أن أمريكا أصبحت ظاهرة محيرة، فهي بلد كبير وغني وغير مهدد أو محاصر، وفيه أفضل العقول المبدعة والبشر الإنسانيين الشرفاء، لكنه يسمح لنظام حكمه، جيلاً بعد جيل، أن يتصرف بتلك الأساليب والعقليات والأمراض التي ذكرنا. إنها حقاً أحجية العصر المليئة بالتناقضات والأسرار.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”