كتب: علي أنزولا
كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن مفارقات كثيرة، وعرّت عن حقائق كانت مُوَارَاة ننساها تغاضياً، وليس جهلاً بها، لكنّ الحروب، كما يقال كشّافةٌ، تكشف أجمل ما في الإنسان، ولا تكتفي بتعرية أسوأ غرائزه، وإنّما تصنعها وتضاعفها، كما قال الشاعر العربي القديم زهير بن أبي سلمي:
وَمَا الْحَرْبُ إلّا مَا علمتمْ وَذُقتُم/ وَما هوَ عَنها بالْحَديثِ الْمُرَجَّمِ
مَتى تَبْعَثُوها تَبْعَثُوها ذَميمَةً/ وتَضْرَ إذا ضَرّيْتُمُوها فتَضْرَمِ
فَتَعْرُكُكُم عرْكَ الرّحى بثِفالها/ وَتَلْقَحْ كِشافًا ثُمّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
هي الحرب إذاً، أو الهيجاء، كما كان العرب يسمونها قديماً، تهيّج النيران وتهيّج المشاعر والغرائز، ووسط هذا التهييج برزت عدة مفارقات منذ الأيام الأولى لاندلاع هذه الحرب، وما قد تكشف عنه الأيام المقبلة سيكون أفظع وأعظم.
أولى هذه المفارقات أنانية الرجل الأبيض الغربي، والتي تجلت في هَبّة الدول الغربية، من أوروبا إلى أميركا لنصرة شعب أوكرانيا الأبيض الأوروبي المسيحي، وهذا موقفٌ يحسب لهذه الدول وشعوبها، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بهجوم غاشم من قوة معتدية توسعية، يقودها رجل يعاني من جنون العظمة. رَدّة الفعل الغربية جاءت سريعة، عقوبات قاسية اقتصادية ومالية ورياضية غير مسبوقة في التاريخ ضد روسيا، ودعم سخي بالمال والسلاح تدفق بسرعة من دون تردد ومن دون حساب، ومن كلّ الدول الغربية بلا استثناء، وفتح الأبواب واسعة أمام المتطوعين من الدول الغربية للقتال في صفوف القوات الأوكرانية، وتضامن رسمي وشعبي جاء سريعاً وواسعاً أخرج دولاً عن حيادها التاريخي، مثل سويسرا والسويد، ودفع ألمانيا “غير المسلحة” إلى التكشير عن أنيابها، وذهب بحماسة وزيرة خارجية بريطانية، ليز تراس، إلى الإعلان عن تشجيع مواطني بلدها للقتال إلى جانب القوات الأوكرانية ضد الهجوم الروسي!
حدث هذا التحرّك الغربي الجماعي والموحد، بل والمطلوب في مثل هذه الحالة، بدعوى أنّ الهجوم الروسي على أوكرانيا ليس مقبولاً من وجهة نظر القانون الدولي، والسكوت عنه ليس مبرّراً لا سياسياً ولا أخلاقياً، وجاء أيضاً باسم الدفاع عن القيم الغربية، لكن للمفارقة أنّ هذه الدول لم تستحضر، بالأمس القريب، كلّ هذه المبادئ والقيم التي تدافع عنها اليوم عندما دمّرت قواتها الغازية دولاً كاملة، وقتلت من شعوب هذه الدول وهجّرت ملايين منها وأفقرتها في أفغانستان والعراق وليبيا والصومال، والمبادئ والقيم نفسها تغيب عن “راداراتها” الأخلاقية كلّ يوم عندما يدوس عليها يومياً، وعلى مدى ستة عقود، جيش الاحتلال الصهيوني العنصري (ومستوطنوه) الذي يقتل الفلسطينيين الأبرياء ويهجّرهم ويعتقلهم، بعدما اغتصب أرضهم واحتل ديارهم. لقد فضحت هذه الحرب، بما لا يدع أيّ مجال للشك أو المزايدة، سياسة الكيل بمكيالين التي تتحكّم في أنانية العقل الغربي المسيحي، عندما يتعلق الأمر بادّعائه الدفاع عن الأخلاق والمبادئ والقيم.
المفارقة الثانية مرتبطة بمركزية الاهتمام بالإنسان الغربي، وكشفت عنها وسائل إعلام غربية كبيرة، لم تظهر فقط تحيّزها، وإنما أبانت أيضاً عن عنصريتها في تغطيتها الحرب، وتمييزها المقيت بين ضحايا هذه الحرب، وأغلبهم من المدنيين، من أوكرانيين وغربيين ومن جنسيات أخرى، لكنّ وسائل إعلام غربية أبانت عن تحيزها للضحايا الأوكرانيين والأوروبيين “المتحضّرين” مقابل ليس فقط تهميش الضحايا واللاجئين من جنسياتٍ أخرى في تغطياتها، وإنّما استعمال، وبطريقة مجّانية، صوراً نمطية تصفهم بالتخلف والهمجية والفقر، من دون مراعاة مشاعر ومعاناة آلاف من اللاجئين المشردين في جميع أنحاء العالم، ضحايا الحروب والمآسي التي صنعها الغرب في بلدانهم!
المفارقة الثالثة، وهذه أكثر قسوة، تلك التي نقلتها بعض مقاطع الفيديو وتظهر عناصر من الجيش الأوكراني ومن حرس الحدود البولندي يمنعون النازحين الأفارقة السود والعرب والهنود، الذين يميزهم لون بشرتهم، من عبور الحدود أو الصعود إلى الحافلات والقطارات، بينما يسمحون للأوكرانيين البيض! وحملت مقاطع الفيديو نفسها عبارات عنصرية حاطّة ومهينة، كان يتلفظ بها عناصر شرطة أوكرانيون وبولنديون في حق هؤلاء اللاجئين الهاربين من أوار الحرب، من جنسيات أفريقية وعربية وآسيوية. ففي زمن الحرب تطفو الفطرة الإنسانية في كلّ تجلياتها الجميلة والقبيحة، لكن تبرز أيضاً الغرائز البشرية المقيتة. وفي هذه الحالة، حضرت العنصرية البيضاء بكلّ بشاعتها ورعونتها، لتسيء إلى التضامن الشعبي الكبير والواسع عبر العالم مع الشعب الأوكراني، فليس أقسى وأمرّ من ظلم الضحية الضحية.
المفارقة الرابعة، تلك التي كشفت عنها مواقف عبر عنها مثقفون عرب ووسائل إعلام عربية وليس فقط مستخدمو مواقع التواصل ومنصّاته، من العرب، يساريين وإسلاميين، وأغلبها مساندة للغزو الروسي لأوكرانيا ومبدية إعجابها بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، فقط لأنّه يواجه الغرب، أو متشفية في الشعب الأوكراني، لأنّ جيشه شارك في التحالف الغربي الذي دمر العراق في تسعينيات القرن الماضي، أو ناقمة على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بسبب ديانته اليهودية، أو لأنّه لا يخفي مساندته إسرائيل. وفي كلّ هذه الوقائع كثير من الصواب، لكن هذه المواقف تبدو، في هذه الحالة، خارج السياق، لأنّ لا شيء يبرّر الغزو والاعتداء، ولا عذر لمن سيختار الوقوف إلى جانب دكتاتور قاتل مثل الرئيس الروسي، يساند مجرماً مثل بشار الأسد، ويدعم انقلابياً مثل عبد الفتاح السيسي، ويرسل مرتزقة “فاغنر” لتقاتل في سورية وليبيا وتشاد ومالي، ويقتل معارضيه بكاتم الصوت أو بالسمّ الزعاف.
الخيار الذي اتخذه قيصر روسيا المعاصر، لتسوية نزاعه مع أوكرانيا بالقوة، يجب أن يرفضه جميع الديمقراطيين والأحرار في العالم، حتى لو كانت شعوبهم ضحايا الديمقراطيات الغربية المركزية والأنانية، فلا يمكن لقانون الغاب أن يحلّ محل القانون الدولي والأخلاق الإنسانية والقيم الكونية. الحرب هي، قبل كلّ شيء، معاناة وموت أبرياء وزرع بذور العداء بين الشعوب، وأولئك الذين يجدون الأعذار والمبرّرات لديكتاتورٍ مصاب بجنون العظمة، بدافع العداء البدائي والأعمى لأميركا أو بمثابة رد فعل معادٍ للغرب الاستعماري، فإنّ القيم والمبادئ واحدة لا تتجزأ وغير قابلة للانتقاء. ليس مطلوباً من المرء دائماً الاصطفاف الحرفي بانضباط وراء الطابور، وإنّما التماهي مع المبادئ التي يؤمن بها والقيم التي يدافع عنها، فهي بوصلته في حالة الحرب والسلم، حتى لا يسقط في ما سقط فيه الغربيون الأنانيون وإعلامهم العنصري من تناقضات صارخة أسقطت عنهم آخر أوراق التوت التي كانوا يتدثّرون بها.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي “الرأي الآخر”