كتب: ممدوح حمادة
لا يخلو تاريخ شعبٍ من حروب خاضها جيشه ضد الشعوب الأخرى، منها الحروب الصغيرة التي تمخضت عن فرض موقف أو سلوك وانتهت بذلك، ومنها ما أدّى إلى تغيير الخريطة في بلدان كثيرة، ومنها الحروب الاستيطانية التي انتهت بالقضاء على شعبٍ أو تشريده وإحلال شعب آخر أو جماعة من الناس تنتمي لشعوب أو أعراق أخرى مكانه، كما حصل للهنود في القارّة الأميركية وما يحدث في فلسطين، أضف إلى ذلك الحروب الداخلية متعدّدة الأشكال، وبغض النظر عن النوع الذي تنتمي إليه هذه الحرب أو تلك، تبقى الحروب أمرا مكروها بسبب سفك الدماء والظلم الذي يتعرّض له البسطاء من كلا الطرفين المتحاربين، وبسبب إبادة حضارات بأكملها في بعض الأحيان. ولا تقع الحرب الروسية الأوكرانية خارج هذا الإطار.
وإذا كان قرار الملك في العصور الغابرة يعد، بشكل آلي، موقف شعبه، ففي ما يخص الحروب المعاصرة قد يقف قسم من الشعب، وأحيانا قسم كبير، ضد الحرب، خصوصا إذا كان جيش البلد هو الذي يشنّها. وبالتالي، لا يمكننا النظر إلى الشعب طرفا في الحرب، وإنما على الأغلب هو مغلوبٌ على أمره، ولا يريد هذه الحرب، لأن أبناءه وقودها، فهم الذين يُقتلون وتترمل نساؤهم ويتيتم أبناؤهم، وهم الذين يدفعون ثمنها، فالجيوش تأكل أقوات شعوبها. بكلام آخر، الحروب هي حروب الملوك، وليست حروب الشعوب. وإذا كان هناك شعب يقف مع الحرب، فإنه شعبٌ مضلّل تعرّض لحملةٍ من غسيل الدماغ، جعلته يقدّم دمه عن طيب خاطر، كديزل رخيص لمحرّك هذه الحرب. يستثنى من ذلك طبعا ما يُطلق عليه “الحروب العادلة” كالتي يستعيد الشعب بها أرضا مسلوبة أو حقا جرى حرمانه منه. وفي الأحوال كافة، لا يمكننا بأي شكل اعتبار الموتى من هذا الشعب أو ذاك طرفا في الحرب أو شركاء فيها، فهم لا يعلمون عن ذلك شيئا.
يجرى، في الحروب المعاصرة، إقحام الرياضة، وهي نشاط دولي، نوعا من الضغط على أحد أطراف النزاع. وبغض النظر عن أن القوى العظمى أو المهيمنة عالميا، وبالتحديد التحالف الغربي، هي الوحيدة التي يمكنها تطبيق مثل هذه القرارات، حيث لا تستطيع بنما، على سبيل المثال، منع الولايات المتحدة التي غزتها واعتقلت رئيسها أن تمنعها من المشاركة في أولمبياد ما. بغض النظر عن هذه التفاصيل، يأتي استخدام الرياضة هنا نوعا من أنواع الضغط على الطرف الآخر، وهو يلعب، بهذا الشكل أو ذاك، دور السلاح الذي يستخدم في هذه الحرب، خصوصا أن الفرق الرياضية عادة تمثل بلادها وترفع أعلامها، ولكن استخدام الأدب والفن نوعا من أنواع التعبير عن استنكار هذه الحرب أو تلك لا يمكن إدراجه إلا ضمن تجليات الانحطاط التي يتميز بها عصرنا، وإنْ كنا نعذُر حماقة تلك المذيعة الأميركية التي ألقت رواية تولستوي “الحرب والسلام” من مكتبتها، فإننا لا نفهم سلوك دول ومؤسسات ثقافية سحبت هذا المنتج الأدبي لدوستويفسكي من منهاج تعليمي، أو وقف عرض حفل موسيقي لتشايكوفسكي، أو غير ذلك من الخطوات التي طاولت الفن والأدب، ردّا على حرب بوتين ضد أوكرانيا. هذا الفعل مستغرب، كون المنتج الأدبي أو الفني لا يمكن اعتباره في أي حال طرفا في الحرب، فدوستويفسكي لا يساعد بوتين في حربه قيد شعرة، لأن ما كتبه أصلا لم يعد روسيا ولا أوكرانيا ولا فرنسيا. إنه الآن تراث إنساني، مثل أي إنتاج أدبي أو فني، والاعتداء على هذا المنتج بحجّة الحرب الروسية على أوكرانيا سلوك لا يمكن وصفه إلا بالمنحطّ، وهو خطوة جديدة تضاف إلى هذا الطريق. ولو كان ذلك مبرّرا، لكان من المفترض حذف كل مؤلفات شكسبير، فالتاج البريطاني اقترف ما اقترف ضد الهنود والعرب وغيرهم. ولكان من المفترض فعل ذلك مع كل أدباء أميركا بعد غزوها العراق، ومع فرنسا بعد حملات نابوليون .. إلخ. يبقى العزاء أن الفن والأدب خالدان، وأنتم العابرون، مهما كنتم تملكون من القوة.