فهد الغويدي – الرأي الآخر
تُظهر صورة ملتقطة من داخل مقصورة أحد القطارات في مصر، فخامة وأناقة عالية وغير معهودة ويبدو من في الصورة وكأنهم جلوس في ممر فندق ذو خمسة نجوم أو دار أوبيرا وليسوا في قطار!!
الصورة تعود إلى عام 1950 وهنا تتلاشى الغرابة وينتهي العجب فمصر تكاد أن تكون الدولة الوحيدة التي ماضيها أجمل من حاضرها وكلما عدت فيها للماضي، تقلب صفحاته وتشاهد صوره وتتبع أخباره كلما شعرت أنك تتقدم للمستقبل لا أن تعود للوراء!!
صورة القطار ما هي إلا تجسيد ومثال بسيط جدا لما كانت عليه مصر قبل 1952 وحتى لا يسيء القارئ فهمي، لست في هذا السياق مدافعا عن الحقبة الملكية بل ناقما على حقبة العسكر الممتدة إلى الآن.
فمنذ مجيئهم للسلطة بدى وكأن الموروث السياسي والاجتماعي والثقافي والفني وحتى الديني المصري كل هذا الموروث الذي فاض عن حاجة أم الدنيا وتم تصديره لكل الوطن العربي في حالة اندثار وتلاشي، حتى أطلاله لم تعد موجوده لنتباكى ويتباكى المصريون عليها!!
والمرحلة الانتقالية التي دخلت من خلالها مصر إلى نفقها المظلم كما يرى الكثير من المراقبين تمتد من عام 1952 وحتى منتصف السبعينات.
زار أبي مصر في بداية السبعينات وقد مكث فيها فترة لا بأس بها مكنته من الاحتفاظ بذكريات كثيرة لا يزال يرويها لنا إلى الآن، وكنا ننبهر وهو يتحدث عن عظمة الشوارع والمسارح والمساجد وانتشار الصالونات الثقافية في كل مكان وعن رقي الشعب المصري وعن الثراء المتمثل في القصور القديمة والحدائق أو حتى الثراء الثقافي والمعرفي والفني.
أخذت على عاتقي وانا استمع إليه مهمة السفر إلى مصر فسافرت إليها قبيل ثورة يناير، وبعد الثورة وكان انطابعي يخالف تماما الصورة التي رسمها لي أبي.
لا فهذه ليست مصر التي تعرف يا والدي!!
حادثة قطار سوهاج ليست الأولى ولا اعتقد (مع بالغ الأسف) أنها ستكون الأخيرة، لأن المشكلة ليست في السائق كما صرح بذلك الإعلام الرسمي للنظام ولا في جودة القطار أو حتى في نظام التشغيل والتوقيت، المشكلة الحقيقية تكمن في النظام نفسه، في الدولة نفسها وفي بنيتها الهشة القائمة أصلا على الفساد بمعنى أن الدولة لم تنشأ بشكل سليم ثم مع تقادم السنين يصبح الفساد دخيلا عليها وإنما قامت أصلا على الفساد!!
لقد سبقت هذه الحادثة المروعة العديد من الحوادث المؤلمة والتي لا استطيع سردها بالكامل في هذا المقال ولكني سأذكر على سبيل المثال لا الحصر وأذكر القارئ بحادثة قطار العياط 2002 والتي راح ضحيتها حوالي 350 راكبا، في نفس القرية وبعد 7 سنوات حادثة أخرى راح ضحيتها 30 راكبا، ثم في 2012 الحادث المأساوي الذي راح ضحيته 50 تلميذا على اثر اصطدام قطار بحافلة تلاميذ، في 2018 حادثة قطار البحيرة التي راح ضحيتها 12 راكبا، 2019 حادثة حريق قطار محطة مصر والتي أدت لوفاة 20 شخص والقائمة تطول..
حادثة انهيار مبنى السويس كذلك ليست الوحيدة ولن تكون الأخيرة للأسف.
كل هذه الحوادث وغيرها هي كذلك تجسيد لهذه المرحلة التي تمثل انهيارا على كل المستويات الاجتماعي منها قبل السياسي والثقافي قبل الاقتصادي، يكفي فقط أن تتجول بين المحطات التلفزيونية الرسمية لتكون شاهد عيان على كل هذا الإسفاف والانحطاط، وتوزيع الاتهامات جزافا وإلقاء اللائمة في كل ما يحدث على كل شيء وأي شيء حتى على المخلوقات الفضائية -إن أمكن- وتبرئة أصل المشكلة وأساسها وأُسها.
ليست لعنة الفراعنة كما راح يتندر بذلك الشعب المصري في مواقع التواصل بخفة دمه المعتادة والتي يستخدمها للقفز على واقعه المأساوي بل هي لعنة العسكر التي غيرت تلك الصورة الأنيقة الملتقطة بالأبيض والأسود إلى صور أخرى ملوّنه لكنها مليئة بالفوضى والفقر والدماء والرماد!!
لقد جنحت السفينة وتسبب جنوحها هذا في غلق شريان اقتصادي عالمي ترتب عليه خسائر بمليارات الدولارات وإحراج دولي كبير، لكنها عادت لتعوم مجددا بعد أيام، وسينسى العالم هذه الأزمة، لكن مصر كلها جانحة ويبدو أن تعويمها مجددا سيكون أمرا في غاية الصعوبة لأسباب كثيرة يطول شرحها، والسفينة المصرية التي تغنى بها الشيخ إمام والقادرة على مواجهة الصعاب ومواجهة البحر العاتي تحتاج أن يكون ممسك الدفة صنايعي وإلي ع المجداف زناتي والي فوق الصاري كاتب، لكن كيف السبيل يا شيخ إمام اذا كان كل ما سبق غير موجود ومختزل بالعسكر؟!.
والحل الذي يمكن أن يخرج مصر مما هي فيه لخصة العبقري جمال حمدان “رحمه الله” في موسوعته (شخصية مصر).
حيث قال : “ومن هنا فإن ما تحتاجه مصر أساسا، ثورة نفسية بمعنى ثورة على نفسها ثم على نفسيتها، يعني تغيير جذري في العقلية والمثل والأيديولوجيا قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها، فهذا لا يسبق ذلك ولكنه يترتب عليه”.
هذا الكلام قاله جمال حمدان في منتصف الستينيات -تقريبا- حين كان في مصر بقية باقية من عظمة ماضية، فهل لا تزال هذه الوصفة ناجحة الآن؟!.
المقالة ومصطلحاتها تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ولا تُعبّر بالضرورة عن سياسة الموقع